الدعاء والاستغفار لأصحاب الكبائر
الصنف الثاني: أصحاب الكبائر، فهل يستغفر لأهل الكبائر ويدعى لهم؟! والجواب: أن ذلك يجوز عند أهل السنة والجماعة ، وفي ذلك كلام لـشيخ الإسلام رحمه الله تعالى، يقول: (يجوز عندهم -أي: عند أهل السنة والجماعة - أن صاحب الكبيرة يدخله الله الجنة بلا عذاب، إما لحسنات تمحو كبيرته منه أو من غيره، وإما لمصائب كفرتها عنه، وإما لدعاء مستجاب منه أو من غيره، وإما بغير ذلك).ويمكن أن نوضح ذلك بأن نقول: إذا كان الله سبحانه وتعالى أخبر في كتابه أن كل ذنب دون الشرك فإنه تحت مشيئة الله، وأنه يغفر ما دون الشرك لمن يشاء، فنحن نسأل الله سبحانه وتعالى أن يغفر لمرتكب الكبيرة التي هي دون الشرك، ولا حرج في هذا؛ لأنه تعالى إنما استثنى من ذلك الشرك، وأما ما دونه فيغفره، فنحن ندعو بالمغفرة لمن كان هذا حاله، كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: صلاة المسلمين على الميت ودعاؤهم له من أسباب المغفرة، وكذلك دعاؤهم واستغفارهم في غير صلاة الجنازة.ثم إن هنالك أدلة تدل على مشروعية الاستغفار لأهل الكبائر:الدليل الأول: عموم النصوص الدالة على مشروعية الاستغفار للمؤمنين؛ لأنا إذا أخرجنا الشرك والمشركين فمن دونهم هم المؤمنون، ويدخل فيهم أصحاب الكبائر، فقوله تعالى: (( وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ))[محمد:19] يدخل فيه أصحاب الكبائر؛ لأن أخوة الإيمان ثابتة لا تنتفي بارتكاب الكبيرة، والدليل على ذلك أن الله تعالى قال: (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ))[الحجرات:10]، وقال تعالى: (( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ))[الحجرات:9]، فهم إخوة ومؤمنون وإن وقع بينهم القتال، وقال تعالى: (( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ))[البقرة:178]، فأثبت الله سبحانه وتعالى أخوة البغاة وأخوة المتقاتلين وإيمانهم، فدل ذلك على أنه يشملهم الاستغفار للمؤمنين عامة.ومن الأدلة على ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: ( أخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي )، وفي بعض الروايات: ( شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي )، وهذا الحديث ضعفه بعض العلماء، ولكن بعضهم جمع طرقه فوجد أنه يشد بعضها بعضاً، فترجح أنه يحتج به.وأما معناه فحق ولا إشكال فيه؛ لأن الذين يجوزون الصراط كالبرق الخاطف ويدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب هم السابقون الأولون، وليسوا هم أهل الشفاعة التي هي أهم ما يحتاج إليه الناس، فهؤلاء لا حاجة لهم إليها بفضل الله تبارك وتعالى، إنما الشفاعة التي تدخر والتي يحتاج إليها من يكون في أشد الحاجة والضرورة هي الشفاعة لأهل الكبائر، فهؤلاء هم الذين يحتاجون إليها، ولو لم تشملهم لدخلوا النار، وكذلك الشفاعة لإخراج من دخلها؛ لأنها لو لم تشملهم لخلدوا فيها، كما في حديث الجهنميين، فهؤلاء هم المحتاجون إليها، وهم الذين يقتضي الحال أن يؤخر النبي صلى الله عليه وسلم دعوته لتكون شفاعة لأمته يوم القيامة، وهو صلى الله عليه وسلم لا يختار لنا إلا الأفضل، فالأفضل في حقنا هو الشفاعة، ففضل النبي صلى الله عليه وسلم الشفاعة على أن نكون نصف أهل الجنة، وكل هذه النماذج تدل على كمال شفقته صلى الله عليه وسلم ورأفته ورحمته بالمؤمنين، فهو صلى الله عليه وسلم بإعلام الله له وإطلاعه علم أن الشفاعة أعظم وأفضل، فاختار الشفاعة، فشفاعته لأهل الكبائر من أمته حقيقة، مع ورود هذا اللفظ منه صلى الله عليه وسلم.ويدل على ذلك أيضاً ما سبقت الإشارة إليه في حديث الصلاة على القبر برواياته، ومنها رواية عائشة رضي الله تعالى عنها: ( ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة، كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه ) هذه رواية، والرواية الثانية فيها أنهم أربعون، ولا تعارض، بل هناك رواية ثالثة أنهم ثلاثة صفوف، وهي: ( ما من مسلم يموت فيصلي عليه ثلاثة صفوف إلا أوجب )، ولا تعارض بينها إن شاء الله، فهي محمولة على أن يكون صلى الله عليه وسلم أخبر أولاً عن المائة، ثم أخبر عن الأربعين، ثم أخبر عن الثلاثة الصفوف، وهذا فضل من الله عز وجل.والصف يطلق على اثنين، ولذلك يستحب للمصلين على الجنازة أن يقسموا أنفسهم إلى ثلاثة صفوف وإن قلوا حتى ينالوا -إن شاء الله- ذلك الأجر ويصل إلى الميت ذلك الوعد من رسول الله صلى الله عليه وسلم.وكونهم يشفعون فيه دليل على أنه كان من أهل الكبائر، فالله سبحانه وتعالى يقبل شفاعتهم ويتجاوز عن ذنبه وعن كبيرته بسبب هذه الصلاة عليه.وقد ذكر الشوكاني رحمه الله تعالى كلاماً قيماً في نيل الأوطار في دلالة هذا الحديث، حيث قال رحمه الله تعالى ما مفاده: إن دلالة هذا الحديث مقيد بأمرين:الأول: أن يكونوا شافعين له؛ لأنه قال في حديث عائشة: (كلهم يشفعون له)، أي: مخلصين له سائلين له المغفرة، فدليل هذا القيد حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، وما رواه أبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه: ( إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء ) وهو حديث حسن، فمع ثبوت ذلك الفضل لا ينبغي لأحد أن يفهمه على إطلاقه، ولهذا ينبغي أن يتنبه المسلمون عامة إلى أن هذا الفضل قيد بالإخلاص، أن يخلصوا الدعاء ويجتهدوا في أن يشفعوا فيه، أي: يدعون له بإخلاص وحضور قلب.يقول المناوي رحمه الله: (المقصود بهذه الصلاة إنما هو الاستغفار والشفاعة للميت، وإنما يرجى قبولهما عند توفر الإخلاص والابتهال).القيد الثاني: سلامة الشافعين من الشرك، فإذا كان الداعي مشركاً ويستغفر للميت ويدعو له فإن دعاءه لا ينفع ولو كان يدعو لغير مشرك، حتى الشرك الأصغر؛ لقوله في رواية ابن عباس : ( ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعوا فيه )، فقوله: (لا يشركون بالله شيئاً) قيد، وينبغي للإنسان أن يتفطن له؛ لأن الأصل في المؤمن أنه لا يشرك بالله عز وجل شيئاً، وأنَّه يخاف من الشرك صغيره وكبيره، ففي هذه الحالة يكون الخوف منه أشد وأعظم، فيخاف الإنسان منه حين يدعو لأخيه المسلم؛ لأنه مهما أخلص واجتهد في الدعاء وهو متلبس بشيء من الشرك لا يتحقق له ذلك، فيخشى أن لا يتحقق له هذا الوعد الذي قيد بقوله: (لا يشركون بالله شيئاً) وهنا مسألة، وهي في الذين لا يصلى عليهم.فأحدهما: الغال من الغنيمة، وقد قال تعالى: (( وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ))[آل عمران:161]، وقد جاء في الحديث الذي رواه أبو داود وغيره عن زيد بن خالد الجهني : ( أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم توفي يوم خيبر ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: صلوا على صاحبكم ) وقد توفي وهم في غزوة خيبر ، ( فقالوا: يا رسول الله! إن فلاناً قد مات ). يؤذنونه صلى الله عليه وسلم كعادتهم ليصلي على الميت، ويرجون له بذلك الغفران بمشيئة الله، فقال صلى الله عليه وسلم: ( صلوا على صاحبكم ). فتغيرت وجوه الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم، إذ هذه مصيبة عظيمة، وهي ألا يصلي عليه النبي صلى الله عليه وسلم، نسأل الله العفو والعافية. فقال صلى الله عليه وسلم: ( إن صاحبكم غل في سبيل الله. قال: ففتشنا متاعه فوجدنا خرزاً من خرز يهود لا يساوي درهمين )، فمنع عنه هذا الخرز صلاة النبي صلى الله عليه وسلم عليه، فانظر إلى الخسارة التي تحل بالإنسان في كل زمان وفي كل مكان حين يختار الدنيا ويؤثرها على الآخرة وتغلب عليه الشهوة والشح وينسى ما وعد الله تعالى به المؤمنين الذين صبروا واحتسبوا وترفعوا عن هذا! ففي خرز من خرز اليهود كانت هذه النتيجة وكانت هذه العاقبة، نسأل الله العفو والعافية.وهذا الغلول ليس خاصاً بمن يأخذ في مثل هذه الحالة، أي: في الجهاد؛ لأن المال مال الله وحق الله عينه وقسمه في كتابه بين الغانمين وغيرهم، فكل آخذ من بيت مال المسلمين بغير حق يناله هذا الوعيد، نسأل الله العفو والعافية، فلا يظن الإنسان أن هذا خاص بالجهاد وإن كان وارداً فيه، فالظاهر أن هذا عام، ولا شك في أن الغلول في الجهاد أفحش وأشد وأشق، لكن لا يعني ذلك اختصاصه بهذه العقوبة، بل ينبغي لكل مؤمن أن يخاف وأن يخشى من أي اختلاس أو أخذ أو نهب من بيت مال المسلمين بغير حق بأي سبب من الأسباب، نسأل الله العفو والعافية.والآخر: هو الرجل الذي قتل نفسه بمشاقص، نسأل الله العفو والعافية، فلم يصل عليه صلوات الله وسلامه عليه.فهل لأحد أن يأتي فيقول: إن هذين الحديثين يدلان على أن أصحاب الكبائر لا تنفعهم الصلاة ولا ينفعهم الاستغفار، فلا يكون الاستغفار إلا لأصحاب الصغائر؟!والجواب: ليس كذلك، بل الذي يدل عليه الحديث الأول أنه صلّى عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بإذنه، لقوله: (صلوا على صاحبكم)، فالحكمة هنا أمر آخر، وهو الزجر والردع، وهذا ليس خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم، بل لو أن إماماً من المسلمين أو ممن كان له شأن في العلم أو الدعوة أو الخير والصلاح عند الناس رأى أن لا يصلي على رجل ما لذنب ارتكبه، أو لفعل أتاه مما يرى أنه لا يليق؛ ورأى المصلحة في ذلك؛ فإنه يحق له ذلك، ويصلي عليه غيره، ليكون في هذا زجر لمن يرتكب ذلك الفعل من غيره من الناس، وليكون في هذا عبرة وعظة، فلا يقدم أحد بعد ذلك على الاقتداء به أو على أن يفعل مثل ما فعل؛ لخوفه من أنه لو مات لا يصلى عليه أيضاً، ويعظم ذلك عند الناس، ويعلموا أن هذه كبيرة قد أتاها وذنب عظيم قد فعله.فهذه أحد وسائل التربية النبوية التي يمكن أن يتأسى به صلى الله عليه وسلم فيها أهل العلم والإمامة في الدين والشأن، فيجوز لهم ذلك، وهو نوع من أنواع العقوبة لأصحاب المعاصي، وفي نفس الوقت ردع وزجر لمن يعمل مثل عملهم.وعلى هذا يترجح ويتبين لنا أن الدعاء لأصحاب الكبائر صحيح، وثبت أنه مانع من موانع إنفاذ وتحقيق الوعيد فيهم بمقتضى هذه الأدلة.